فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}.
اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان، وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلًا وفهمًا يفنى عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلًا وفهمًا تنفتح عليه أبواب الدنيا، وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السبب جهد الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال، فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيبًا، وأن الأجهل الأخس أوفر نصيبًا، علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام، كما قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ في الحياة الدنيا} [الزخرف: 32]، وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
ومن الدليل على القضاء وكونه ** بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق

واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحبًا لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما حضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده، وما كان يمكنه تناول شيء منها، وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة، وما كان يجد ملء بطنه طعامًا، فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال، إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة، وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه.
أما قوله: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} ففيه قولان:
القول الأول: أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى، والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعًا فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئًا من الرزق، وانما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم وحاصل القول فيه أن المقصود منه بيان أن الرازق هو الله تعالى وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى، وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلًا وأقوى جسمًا وأكثر وقوفًا على المصالح والمفاسد من المولى، وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال: {تُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} [آل عمران: 26].
والقول الثاني: أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكًا لله تعالى، ثم على هذا القول ففيه وجهان: الأول: أن يكون هذا ردًا على عبدة الأوثان والأصنام، كأنه قيل: إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه، فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية، والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله، فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولدًا لي وشريكًا في الإلهية؟
ثم قال تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} معنى الفاء في قوله: {فَهُمْ} حتى، والمعنى: فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم، حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك.
ثم قال: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قرأ عاصم في رواية أبي بكر: {يَجْحَدُونَ} بالتاء على الخطاب لقوله: {خَلَقَكُمْ وَفَضَّلَ بَعْضُكُمْ} والباقون بالياء لقوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه، وأيضًا فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى.
المسألة الثانية:
لا شبهة في أن المراد من قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم.
فإن قيل: كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟
قلنا: فيه وجهان:
الوجه الأول: أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكًا فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحدًا لكونها من عند الله تعالى، وأيضًا فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى.
والوجه الثاني: قال الزجاج: المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعامًا عظيمًا منه على الخلق، فعند هذا قال: {أَفَبِنِعْمَةِ الله} في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات {يَجْحَدُونَ}.
المسألة الثالثة:
الباء في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله} يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول: خذ الخطام وبالخطام، وتعلقت زيدًا وبزيد، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر، والله أعلم.
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}.
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال الناس، ذكره الله تعالى ليستدل به على وجود الإله المختار الحكيم، وليكون ذلك تنبيهًا على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم، فقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} قال بعضهم: المراد أنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم، وهذا ضعيف، لأن قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} خطاب مع الكل، فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل، بل هذا الحكم عام في جميع الذكور والإناث.
والمعنى: أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور، ومعنى: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} مثل قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، وقوله: {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61]. أي بعضكم على بعض، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} [الروم: 21]. قال الأطباء وأهل الطبيعة: التفاوت بين الذكر والأنثى إنما كان لأجل أن كل من كان أسخن مزاجًا فهو الذكر، وكل من كان أكثر بردًا ورطوبة فهو المرأة.
ثم قالوا: المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرًا تامًا في الذكورة، وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان الولد أنثى تامًا في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم، كان الولد ذكرًا في طبيعة الإناث وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور.
واعلم أن حاصل هذا الكلام أن الذكورة علتها الحرارة واليبوسة، والأنوثة علتها البرودة والرطوبة، وهذه العلة في غاية الضعف، فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذكورة والأنوثة ذلك لامتنع ذلك، فثبت أن خالق الذكر والأنثى هو الإله القديم الحكيم وظهر بالدليل الذي ذكرناه صحة قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا}.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً} قال الواحدي: أصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل.
يقال: حفد يحفد حفدًا وحفودًا وحفدانًا إذا أسرع، ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد، والحفدة جمع الحافد، والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك، يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد، فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام، ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة، لأنه تعالى قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً} فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية.
إذا عرفت هذا فنقول: قيل هم الأختان، وقيل: هم الأصهار، وقيل: ولد الولد، والأولى دخول الكل فيه، لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه.
ثم قال تعالى: {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة، سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان، ثم قال: {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بالأصنام، وقال مقاتل: يعني بالشيطان، وقال عطاء: يصدقون أن لي شريكًا وصاحبة وولدًا: {وبنعمت الله هم يكفرون} أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى.
وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} قال بعده: {أفبالباطل يؤمنون زبنعمت الله هم يكفرون} والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة، وبإنعام الله في تحليل الطيبات، وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)}.
اعلم أنه تعالى لما شرح أنواعًا كثيرة في دلائل التوحيد، وتلك الأنواع كما أنها دلائل على صحة التوحيد، فكذلك بدأ بذكر أقسام النعم الجليلة الشريفة، ثم أتبعها في هذه الآية بالرد على عبدة الأصنام فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أما الرزق الذي يأتي من جانب السماء فيعني به الغيث الذي يأتي من جهة السماء، وأما الذي يأتي من جانب الأرض فهو النبات والثمار التي تخرج منها وقوله: {مِنْ السموات والأرض} من صفة النكرة التي هي قوله: {رِزْقًا} كأنه قيل: لا يملك لهم رزقًا من الغيث والنبات وقوله: {شَيْئًا} قال الأخفش: جعل قوله: {شَيْئًا} بدلًا من قوله: {رِزْقًا} والمعنى: لا يملكون رزقًا لا قليلًا ولا كثيرًا، ثم قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} والفائدة في هذه اللفظة أن من لا يملك شيئًا قد يكون موصوفًا باستطاعته أن يتملكه بطريق من الطرق، فبين تعالى أن هذه الأصنام لا تملك وليس لها أيضًا استطاعة تحصيل الملك.
فإن قيل: إنه تعالى قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ} فعبر عن الأصنام بصيغة {ما} وهي لغير أولي العلم، ثم قال: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} والجمع بالواو والنون مختص بأولى العلم فكيف الجمع بين الأمرين؟
والجواب: أنه عبر عنها بلفظ {ما} اعتبارًا لما هو الحقيقة في نفس الأمر وذكر الجمع بالواو والنون اعتبارًا لما يعتقدون فيها أنها آلهة.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} وفيه وجوه: الأول: قال المفسرون: يعني لا تشبهوه بخلقه.
الثاني: قال الزجاج: أي لا تجعلوا لله مثلًا، لأنه واحد لا مثل له.
والثالث: أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون: إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم، والدليل عليه العرف، فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا هاهنا فعند هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذه الأصنام والكواكب ولا تضربوا لله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير.
ثم قال: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وفيه وجهان: الأول: أن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، بسبب عبادة هذه الأصنام وأنتم لا تعلمون ذلك، ولو علمتموه لتركتم عبادتها.
الثاني: أن الله تعالى لما نهاكم عن عبادة هذه الأصنام فاتركوا عبادتها، واتركوا دليلكم الذي عولتم عليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك، لأن هذا قياس، والقياس يجب تركه عند ورود النص، فلهذا قال: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. اهـ.

.قال الجصاص:

قوله تعالى: {وَاَللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُمْ لَا يُشْرِكُونَ عَبِيدَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِيهِ سَوَاء وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ وَهُمْ يُشْرِكُونَ عَبِيدِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَوَاء فِي أَنِّي رَزَقْت الْجَمِيعَ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنْ أَحَدٌ أَنْ يَرْزُقَ عَبْدَهُ إلَّا بِرِزْقِي إيَّاهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَضَمَّنَتْ الْآيَةُ انْتِفَاء الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ عَبْدِهِ فِي الْمِلْكِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ مَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى إيَّاهُ لَجَازَ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَالَهُ فَيَمْلِكُهُ حَتَّى يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ وَيَكُونَ مِلْكُ الْعَبِيدِ مِثْلَ مِلْكِ الْمَوْلَى، بَلْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَفْضَلَ فِي بَابِ الْمِلْكِ وَأَكْثَرَ مِلْكًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَّكَهُ الْمَوْلَى إيَّاهُ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ لَهُ فِي الْمِلْكِ.
وَأَيْضًا لَمَّا جَعَلَهُ مَثَلًا لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ الْأَوْثَانَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْيِهِ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ كَمَا نَفَى الشَّرِكَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}.
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحَفَدَةَ الْخَدَمُ وَالْأَعْوَانُ وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ أَعَانَك فَقَدْ حَفَدَك.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَطَاوُسٌ: الْحَفَدَةُ الْخَدَمُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي الضُّحَى وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: الْحَفَدَةُ الْأُخْتَانِ.
وَيُقَالُ: إنَّ أَصْلَ الْحَفْدِ الْإِسْرَاعُ فِي الْعَمَلِ، وَمِنْهُ: وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، وَالْحَفَدَةُ جَمْعُ حَافِدٍ كَقَوْلِك: كَامِلٌ وَكَمَلَةٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَمَّا تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ الْخَدَمِ وَالْأَعْوَانِ وَمِنْ الْأُخْتَانِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمَا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يَسْتَحِقُّ عَلَى ابْنِهِ الْخِدْمَةَ وَالْمَعُونَةَ لِقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْأَبَ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِخِدْمَتِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ إنْ خَدَمَهُ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْإِجَارَةِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {وَاَللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قَوْلُهُ: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} يَعْنِي مِنْ جِنْسِكُمْ، يَعْنِي مِنْ الْآدَمِيِّينَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا تَتَزَوَّجُ الْجِنَّ وَتُبَاضِعُهَا، حَتَّى رَوَتْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ تَزَوَّجَ مِنْهُمْ غُولًا، وَكَانَ يَخْبَؤُهَا عَنْ الْبَرْقِ، لِئَلَّا تَرَاهُ فَتَنْفِرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي لَمَحَ الْبَرْقَ وَعَايَنَتْهُ السِّعْلَاةُ فَقَالَتْ: عَمْرُو، وَنَفَرَتْ فَلَمْ يَرَهَا أَبَدًا، وَهَذَا مِنْ أَكَاذِيبِهَا، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، رَدًّا عَلَى الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الْجِنِّ، وَيُحِيلُونَ طَعَامَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
المسألة الثانية:
قَوْلُهُ: {أَزْوَاجًا} زَوْجُ الْمَرْأَةِ هِيَ ثَانِيَتُهُ، فَإِنَّهُ فَرْدٌ، فَإِذَا انْضَافَتْ إلَيْهِ كَانَا زَوْجَيْنِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ أَصْلُهَا فِي الْوُجُودِ، وَقِوَامُهَا فِي الْمَعَاشِ، وَأَمِيرُهَا فِي التَّصَرُّفِ، وَعَاقِلُهَا فِي النِّكَاحِ، وَمُطْلِقُهَا مِنْ قَيْدِهِ، وَعَاقِلُ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عَنْهَا فِيهِ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ يَكْفِي لِلْأَصَالَةِ، فَكَيْفَ بِجَمِيعِهَا؟.